سورة الحشر - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحشر)


        


{سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَلَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5)} [الحشر: 59/ 1- 5].
نزّه اللّه تعالى عن كل نقص جميع الكائنات في السماوات والأرض، وسبّحه إما على الحقيقة وذلك بما يتفق مع طبيعة الجمادات، وإما مجازا، أي ان آثار الصنعة فيها والإيجاد لها كالتسبيح، وهو القوي المنيع الجناب، الغالب القاهر في ملكه، الحكيم في صنعه وقدره وشرعه، يضع الأشياء في موضعها الصحيح.
ومن حكمة اللّه وقدرته: أنه سبحانه هو الذي قضى بإخراج الذين كفروا من الكتابيين وهم يهود بني النضير، من ديارهم في المدينة المنورة، في الجمع الأول والجلاء والإخراج، فكان أول جلاء من المدينة: هو الذي فعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، والجلاء الآخر أو الثاني من خيبر إلى الشام: هو الذي فعله عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه.
ما توقعتم أيها المسلمون أن يخرج بنو النضير من ديارهم من المدينة، لقوتهم ومنعتهم، وكانوا أهل حصون وقلاع، وعقارات وبساتين نخيل واسعة، وذوو عدد وعدة، فجاءهم أمر اللّه وبأسه وعقابه من جهة لم تخطر لهم ببال أنهم لن يقدر عليهم، وهو أن اللّه أمر نبيّه بإجلائهم وقتالهم، وألقى الخوف الذي يملأ الصدر في قلوبهم، فلم تكن آمالكم وظنونكم أنهم يخرجون ويتركون أموالهم لكم.
ولما أيقنوا بالجلاء، أخذوا يهدمون بيوتهم من الداخل، كيلا يستفيد منها المسلمون، كما دمّرها المؤمنون من الخارج، فاتّعظوا أيها العقلاء بما حدث، واعلموا أن اللّه يفعل مثل ذلك بمن غدر وخالف أمر اللّه ورسوله.
ولولا أن قضى اللّه عليهم بالخروج والجلاء من الوطن على هذا النحو، لعذّبهم في الدنيا بالقتل والسّبي، كما فعل ببني قريظة سنة خمس للهجرة، بعد غزوة الخندق، وكما فعل بالمشركين يوم بدر في السنة الثانية، وبيهود بني قينقاع وإجلائهم عن المدينة عقب معركة بدر الكبرى، ولهم في القيامة عذاب شديد في نار جهنم. وسبب إجلاء بني النضير: محاولتهم إلقاء صخرة من فوق سطح على النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم، مكان جلوسه بجوار جدار، فأطلعه اللّه تعالى بالوحي على مؤامرتهم، فقام ورجع إلى المدينة، وأمر بالتهيؤ لحربهم وإجلائهم عن المدينة، فحاصرهم ست ليال، وقذف اللّه في قلوبهم الرعب، فطلبوا الصّلح على الجلاء وتحميل الإبل أموالهم إلا السّلاح.
وإنما فعل اللّه بهم ذلك وهو الطرد والإجلاء، وتسليط المؤمنين عليهم، لأنهم عادوا اللّه ورسوله، وكذبوا بما أنزل اللّه على رسله المتقدمين، من البشارة بمحمد صلّى اللّه عليه وسلّم، علما بأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. ومن يعادي اللّه ورسوله بعدم الطاعة، ويتواطأ مع المشركين، وينقض العهد أو ميثاق الصحيفة على الأمن والسّلام والتعايش الديني والاجتماعي، والاقتصادي، فإن اللّه يعاقبه أشد العقاب، ويعذبه في الدنيا والآخرة.
وفي أثناء الحصار:
أمر النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم بقطع نخل بني النضير وإحراقه، حتى لا يبقى لهم تعلّق بأموالهم وأمل بالعودة، ونادوا: يا محمد، قد كنت تنهى عن الفساد، وتعيب من يصنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها؟! فنزل قوله تعالى: {ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها} الآية.
أي إن ما قمتم به من قطع النخيل وإحراقه، أو تركه قائما دون قطع، فهو بأمر اللّه ومشيئته، وقد أذن بذلك، لإعزاز المؤمنين، وإذلال الرافضين للطاعة، وهم اليهود، ولإخزاء الفاسقين، أي الخارجين عن الحدود، الجاحدين بما أنزل اللّه تعالى على رسله. واللينة: النخلة.
فالآية ردّ على قول بني النّضير: إن محمدا ينهى عن الفساد، وها هو ذا يفسد، فأعلم اللّه تعالى أن ذلك بإذنه، وليخزي الفاسقين من بني النضير.
حكم الفيء (أموال الأعداء):
ترتب على إجلاء بني النضير من المدينة وصلحهم على ترحيل أموالهم إلا السّلاح:
ظهور ما يسمى بالفيء، وهو الأموال التي أخذت منهم صلحا، فلم تؤخذ بطريق القتال، لأن المقاتلة كانت قليلة، فأجري ذلك مجرى ما لم يحصل فيه قتال أصلا، وخصّ اللّه تعالى بتلك الأموال رسوله، يتصرف فيها بحسب ما يرى من المصلحة، فقسمها بين المهاجرين، ولم يعط الأنصار منها شيئا إلا ثلاثة نفر كانت بهم حاجة، وهم أبو دجانة، وسهل بن حنيف، والحارث بن الصّمة.
وهذا في الآيات الآتية المبينة حكم الفيء وطريقة تقسيمه في المصالح العامة:


{وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)} [الحشر: 59/ 6- 10].
هذا حكم قسمة الفيء، وإعلام أن ما أخذ من بني النضير ومن فدك فهو خاص للنبي صلّى اللّه عليه وسلّم، وليس على حكم الغنيمة التي تؤخذ من العدو بطريق العنوة أو القتال، وإنما حكمه حكم خمس الغنائم تصرف في المصالح العامة، فما ردّه اللّه تعالى على رسوله محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وصيّره إليه من أموال الكفار بني النضير فهو آت من غير قتال، ولكن اللّه يسلّط بقدرته وتدبيره رسله على من يشاء من أعدائه، فيأخذون أموالهم دون قتال، واللّه قادر على كل شيء، يفعل ما يشاء بمن يشاء. وفي ذلك قال عمر رضي اللّه عنه: كانت أموال بني النضير مما أفاء اللّه تعالى على رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم، مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم ينفق منها على أهله نفقه سنة، وما بقي منها جعله في السلاح والكراع (الخيل) عدّة في سبيل اللّه تعالى.
ومصارف الفيء: هي أن كل ما ردّه اللّه تعالى على رسوله صلّى اللّه عليه وسلّم من كفار أهل القرى، كقريظة والنضير وفدك وخيبر، صلحا من غير قتال، ولم ينتزع بإيجاف خيل (وهو السرعة في الجري) ولا ركاب وهي الإبل الخاصة، يحكم اللّه به بما يشاء، فيكون لرسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم في حياته، يتصرف به بحسب ما يراه من المصلحة، ثم يكون من بعده مصروفا في مصالح المسلمين العامة. ويقسم خمسة أقسام: سهم اللّه تعالى ورسوله: هو للرسول في حياته، ولمصالح المسلمين من بعده، وسهم قرابة الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم: وهم بنو هاشم وبنو المطلب، وسهم اليتامى، وسهم المساكين، وسهم ابن السبيل (المسافر المنقطع عن بلده في سفره) والأربعة الأخماس الباقية لمصالح المسلمين العامة. أما الغنيمة فيصرف خمسها لهؤلاء الأصناف الخمسة المذكورين في الآية، وآية الغنائم: {وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ...} [الأنفال: 8/ 41]، والأربعة الأخماس الباقية للمقاتلين في المعركة.
وعلّة هذا التقسيم وحكمه: ألا يكون تداول الأموال محصورا بين الأغنياء فقط، ولا يصيب الفقراء منه شيء، فيغلب الأغنياء الفقراء، ويقسمونه بينهم، وهذا مبدأ إغناء الكل.
وما أمركم به الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم فخذوه، وما منعكم عنه فاتركوه، وخافوا اللّه بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، إن اللّه شديد العقاب لمن عصاه، وخالف أمره، وارتكاب ما زجر عنه. ثم بيّن اللّه تعالى حال الفقراء المستحقّين للفيء، فسهم هؤلاء غير سهم اللّه والرسول، وهم فقراء المهاجرين الذين أبعدوا من ديارهم وأموالهم، طلبا لمرضاة اللّه وفضله، وإعلاء كلمة اللّه ودينه، ونصرة اللّه ورسوله بجهاد الأعداء، هؤلاء المهاجرون هم الصادقون في إيمانهم، الذين صدّقوا قولهم بفعلهم.
ثم يعطى سهم للأنصار الذين سكنوا المدينة دار الهجرة، من قبل مجيء المهاجرين، ويحبّون المهاجرين، ويواسونهم بأموالهم، ولا يجدون في أنفسهم حاجة أي حسدا أو حقدا بسبب ما أوتي المهاجرون دونهم، بل طابت أنفسهم بذلك، ويقدمون غيرهم على أنفسهم في حظوظ الدنيا، ولو كان بهم حاجة وفقر، ومن كفاه اللّه داء بخل نفسه ووقي من ذلك، فأدى ما يجب عليه شرعا من زكاة أو حقّ، فقد فاز وظفر بكل المطلوب. والإيثار على النفس أكرم خلق.
والذين أتوا في الزمان من بعد المهاجرين والأنصار، وهم التابعون لهم بإحسان يقولون: ربّنا اغفر لنا، ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، وانزع من قلوبنا الغلّ أو الحقد والبغض والحسد للمؤمنين قاطبة، فإنك يا ربّ واسع الرأفة، كثير الرحمة، فاقبل دعاءنا. قال الإمام مالك: إنه من كان له في أحد من الصحابة قول سوء أو بغض، فلا حظّ له في الغنيمة أدبا له.
مواقف المنافقين واليهود في القتال:
ضمّ التّكتل المعادي للمسلمين في صدر الإسلام فئات ثلاثا: هم المشركون الوثنيون، والمنافقون واليهود، وهم الحلف الثلاثي لمعسكر الشّر والكيد، والتّآمر والعدوان، فقد جمعتهم المصالح، لمحاربة أهل القرآن وأتباع النّبي عليه الصّلاة والسّلام، وأظهروا مواقف عدوانية خطيرة، لابد من صدّها والوقوف ضدّها، ولم تمض إلا فترة زمنية قليلة إلا وانفرط عقد هذا الحلف المشبوه، وتبددت قوى أهله، وزال كيد أصحاب الكيد والضّلال، قال اللّه تعالى واصفا مواقف فئتين من هذا التّكتل، وهم المنافقون واليهود:


{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17)} [الحشر: 59/ 11- 17].
أخرج ابن أبي حاتم عن السدّي قال: أسلم ناس من أهل قريظة، وكان فيهم منافقون، وكانوا يقولون لأهل النضير: «لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم» فنزلت هذه الآية فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ...} نزلت في عبد اللّه بن أبي ابن سلول، ورفاعة بن التابوت، وقوم من منافقي الأنصار.
والمعنى: ألم تنظر نبي اللّه إلى هؤلاء القوم من المنافقين كعبد اللّه بن أبي، وعبد اللّه بن نبتل، ورفاعة بن زيد، وأمثالهم، حين بعثوا إلى يهود بني النضير: أن اثبتوا وتحصّنوا، أو تمنّعوا، فإننا لا نسلمكم، وإن قوتلتم قاتلنا معكم، وإن أخرجتم خرجنا معكم، ولا نطيع في شأنكم ومن أجلكم أحدا ممن يريد أن يمنعنا من الخروج معكم كمحمد وأتباعه، وإن طال الزمان، وإن قوتلتم لننصرنكم على أعدائكم، وكانوا كذبة فيما قالوا من ذلك، واللّه يشهد إنهم لكاذبون فيما وعدوهم به من الخروج والنصرة، إما لنيّتهم المبينة ألا يفوا بما وعدوا به، وإما لأنهم لا ينفّذون ما قالوا.
ثم فصّل اللّه تعالى أخبارهم الكاذبة ومواقفهم الخادعة، فقال: { لَئِنْ أُخْرِجُوا} أي تالله لئن أخرج يهود بني النضير من ديارهم، لا يخرج معهم المنافقون، ولئن قاتلهم المؤمنون لا يقاتلون معهم، ولئن قاتلوا معهم، لفرّوا هاربين منهزمين، ثم لا يصير الفريقان من المنافقين واليهود منصورين بعد ذلك، بل يذلّهم اللّه ويخذلهم، ولا ينفعهم نفاقهم.
إنكم أنتم أيها المسلمون أشدّ خوفا ورهبة في صدور المنافقين واليهود من رهبة اللّه، فهم يخافون منكم أكثر من خوفهم من اللّه، بسبب أنهم قوم لا يعلمون قدر عظمة اللّه، حتى يخشوه تمام الخشية، ولو فقهوا لعلموا أن اللّه تعالى أحقّ بالرّهبة منه دونكم.
وأسلوب المنافقين واليهود في قتال المؤمنين أنهم لا يواجهون جيش الإسلام مواجهة، ولا يقاتلونهم مجتمعين، وإنما يقاتلونهم من وراء الحصون والقلاع، أو من خلف الأسوار التي يتستّرون بها، لجبنهم ورهبتهم، وحربهم الدائرة بينهم شديدة، تظنهم جميعا متوحّدين، وهم متفرّقون، لما بينهم من أحقاد وعداوات، ولأنهم قوم لا يعقلون الحق وأمر اللّه. وبأسهم: أحقادهم وأضغانهم.
ولهم أشباه ونظائر، فهؤلاء اليهود والمنافقون أصابهم مثل ما أصاب كفار قريش يوم بدر، في السنة الثانية من الهجرة، ومثل ما أصاب من قبلهم من يهود بني قينقاع الذين أجلاهم النّبي صلّى اللّه عليه وسلّم من المدينة إلى أذرعات بالشام، بعد سنة ونصف من الهجرة، إنهم ذاقوا في زمان قريب سوء عاقبة كفرهم في الدنيا، ولهم عذاب مؤلم جدّا في الآخرة. ولهم مثل آخر، فإنهم مثل الشيطان الذي سوّل للإنسان الشّر، وأغراه بالكفر وزيّنه له، وحمله عليه، فلما كفر مطاوعة للشيطان، تبرأ الشيطان منه، وقال على وجه التّبري من الإنسان: إني أخاف عذاب اللّه ربّ العالمين إذا ناصرتك، أي ان مثل هاتين الفرقتين من المنافقين وبني النضير كمثل الشيطان والإنسان، فالمنافقون مثلهم الشيطان، وبنو النضير مثلهم الإنسان.
فكان عاقبة الفريقين: فريق المنافقين واليهود، وعاقبة الشيطان الآمر بالكفر والإنسان المستجيب لوسوسة الشيطان: أنهما صائران إلى نار جهنم، خالدان فيها على الدوام، وذلك الجزاء وهو الخلود في النار هو جزاء الكافرين جميعا.
التذكير بالآخرة:
تكرر في القرآن الكريم كثيرا الأمر بتقوى اللّه التي هي التزام المأمورات، واجتناب المنهيات، وذلك فيما يقارب مائتين وأربعين مرة، إما بالأمر، أو بالخبر، أو بالوصف والإشادة بالمتّقين، من أجل تربية الإنسان وتصحيح عقيدته وعبادته وسلوكه في الحياة، ورغّب القرآن في الإعداد للجنّة، وحذّر من عمل أهل النار، ووصف أهل الجنة المستحقين لها بالفائزين، وأهل النار بالفاسقين. وهذه آيات وعظ وتذكير وتقريب للآخرة. وتحذير ممن لا تخفى عليه خافية، قال اللّه تعالى:

1 | 2